لقد اكتسبت جمهورية إيران الإسلامية على مدى عدة سنوات موطئ قدم مهم في العراق، حيث تنشر نفوذها وأجندتها في الحياة اليومية للعراقيين.

 

نورس جاف هو طالب دراسات عليا متخصص في مجال الدراسات الدولية والدبلوماسية في جامعة أولد دومينيون في الولايات المتحدة الامريكية.

 

بيد أن موطئ القدم هذا قد اتخذ طابعًا خاصًا في إقليم كردستان العراق، حيث طورت إيران آليات مختلفة لتتمكن من توسيع هذا النفوذ داخل أراضي الإقليم وخارجه. وتستخدم طهران الكثير من أساليب القوة الناعمة لتحقيق هذه الغاية، بما في ذلك اعتماد نهج الإرغام داخل السياسة المحلية، والهداية، والتوسع الثقافي، وتشكيل الفرص التعليمية.

 

النفوذ الإيراني في السياسة الداخلية لإقليم كردستان العراق

 

وكما هي الحال في معظم أنحاء العراق، تشتهر الجمهورية الإسلامية بدعمها المالي والعسكري واللوجستي للأحزاب السياسية الكردية العراقية، وبالتحديد لحزب “الاتحاد الوطني الكردستاني”، ما منح إيران على مر السنين موطئ قدم رئيسي في المشهد السياسي في العراق.

 

وانطلاقًا من بداية الحركات السياسية المتشددة والثورية للأحزاب في جنوب كردستان في ستينيات القرن العشرين وحتى اليوم، لعبت إيران دورًا رئيسيًا في السياسة الداخلية الكردية من خلال تأمين الضروريات المالية والعسكرية واللوجستية لهذه الأحزاب. وتمثل الزيارات الدبلوماسية أحد جوانب الرسمية لهذه الديناميكية. فقد زار وفد إيراني مسؤولين أكراد في نيسان/أبريل 2022 لمناقشة تعزيز العلاقات الثنائية، والتقى في خلالها برئيس “الحزب الديمقراطي الكردستاني” مسعود بارزاني، ورئيس وزراء إقليم كردستان العراق مسرور بارزاني، ورئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني.

 

وعلى نحو مماثل، التقى نائب وزير الاستخبارات الإيراني، آغا لطفي، ووفد إيراني آخر مع عدد من سياسيي الإقليم في السليمانية وأربيل في نيسان/أبريل 2023، بمن فيهم محمد حاجي محمود، وهو سياسي كردي عراقي تابع لـ”الحزب الديمقراطي الاجتماعي” في إقليم كردستان العراق. وخلال هذه الزيارة، أشار تقرير “المعهد الكردي في واشنطن” الصادر في 18 من نيسان/أبريل إلى مزاعم بأن الوفد الإيراني ضغط على حكومة إقليم كردستان من أجل “طرد الأحزاب الكردية الإيرانية من كردستان العراق ونزع سلاحها في محاولة لتفعيل الاتفاق الأمني الأخير بين بغداد وطهران”، وهو اتفاق يركز على احتواء المنشقين الأكراد الإيرانيين في الإقليم بهدف حماية أمن إيران.

 

وأكد على ما يبدو، أمين حزب منشق عن “الحزب الديمقراطي الكردستاني”، يدعى حاجي محمود، في مقابلة تلفزيونية أُجريت في نيسان/أبريل 2023، التجذر العميق للقوات الإيرانية في السياسة الكردية، مدعيًا أن “في انتخابات عام 2014، قدم قاسم سليماني، القائد السابق لـ”فيلق القدس” الإيراني، مليون دولار لأحزاب المعارضة الكردية الأربعة”.

 

وكان سليماني أيضًا يجتمع بانتظام قبل وفاته مع المسؤولين الأكراد العراقيين، واجتمع على وجه الخصوص مع شخصيات من “الاتحاد الوطني الكردستاني” في عام 2017، ونصحهم، وقوات البيشمركة التابعة لهم، بتجنب شن المعارك في مدينة كركوك ضد قوات حيدر العبادي، رئيس الوزراء آنذاك، التي كانت تدعمها قوى غربية وإقليمية، بما في ذلك إيران. وفي مقابل انسحاب البيشمركة من كركوك، وعد سليماني بأن إيران “ستحمي مصالحهم”، وأشاد حينها المشرعون الأكراد بزيارته ونصائحه باعتبارها “حكيمة” ومفيدة لمنع ارتكاب “خطأ فادح”.

 

الدين كأداة للتأثير

 

يضم إقليم كردستان العراق في المقام الأول مسلمين سنّة، وبالأخص من أتباع المذهب الشافعي. ولعدة سنوات، نظمت إيران “مؤتمر الإمام الشافعي” لملالي الإقليم والشخصيات الدينية الأخرى كوسيلة للتأثير على الزعماء الدينيين في المنطقة. ونتيجة لذلك، اعتنقت بعض الشخصيات الدينية المذهب الشيعي، كالشيخ عيسى البرزنجي، الذي بايع الإمام حسين بن علي، سبط النبي محمد، وقال لشبكة رووداو الإعلامية خلال فترة عيد غدير: “أنا من أتباع الإمام علي ومحمد النبي، يجب أن يكون الجميع من أتباع الإمام علي”. ثم عاد ليدعي بأنه لو كان العراقيون من الشيعة، لما وقعت أحداث نظام صدام حسين.

 

وحاولت إيران كسب ود الكثير من الأقليات الدينية، التي تنتمي إلى مجموعات إثنية متعددة في إقليم كردستان العراق، بما فيها تلك التي تم استهدافها خلال سنوات نشاط تنظيم “داعش”، كالشبك والكاكائيين والبكتاشيين، على وجه الخصوص. وفي كل حالة، حاولت إيران دفع هذه الأقليات نحو النسخة الإيرانية للإسلام الشيعي. وكما قال أحد المصادر، “حاولت إيران تغيير آراء ومعتقدات الشبك والكاكائيين… [وحاولت] إقناع الكاكائيين بأن المتطرفين السنّة سيهاجمونهم، إن لم يعتنقوا المذهب الشيعي”. ويدل وجود ميليشيات شيعية من الشبك والكاكائيين في محافظة الموصل والمناطق المجاورة، على نجاح جهود إيران، جزئيًا على الأقل. واليوم تستضيف برطلة، وهي بلدة كانت ذات أغلبية مسيحية في قلب العراق المسيحي، الكثير من العراقيين الشيعة.

 

الطرق الدينية

 

تنتمي جميع الطرق الدينية تقريبًا في إقليم كردستان إلى الحركات الإسلامية السنية، إلا أن لإيران تأثير واضح على أتباع واحدة من أكبر هذه المجموعات الدينية، وهي الطريقة القادرية الكسنزانية في السليمانية، حيث تستقبل آلاف الزوار شهريًا. وإلى جانب الزوار السنّة، يأتي الشيعة من جنوب ووسط العراق وإيران للمشاركة في احتفالاتها وأنشطتها الدينية.

 

وليس لهذه الطريقة تاريخ طويل، فقد انبثقت من مكان دفن الشيخ محمد الكسنزاني بعد وفاته في تموز/يوليو 2020. ومنذ ذلك الحين، أصبح الضريح مزارًا لأتباعه، ومن بينهم ما يُقدّر بآلاف الأشخاص من إيران، إلى جانب الزوار المحليين والأجانب. ولا شك في أن مشاهد تعبد هؤلاء الزوار تذكّر بالأماكن المقدسة الشيعية الأخرى التابعة لهذه الجماعة، وشخصيات شيعية هامة مثل عمار الحكيم، زعيم طريقة الحكمة، وهو أحد القادة الشيعة المعروفين في العراق ويحظى بدعم كبير من إيران.

 

وعلى نحو مماثل، كرست إيران جهودًا متضافرة لمحاولة بناء حسينية في مدينة أربيل التابعة لإقليم كردستان العراق. ويُحيي الشيعة في المقام الأول شعائر محرّم في الحسينية في ذكرى استشهاد حسين بن علي. ولكن سلطات إقليم كردستان العراق رفضت خطة البناء في النهاية، ومع ذلك يواصل الشيعة أداء شعائرهم وأنشطتهم الدينية السنوية في مسجد ألتون في المدينة.

 

علاوة على ذلك، أثر الزوار الإيرانيين بشكل واضح وغير مباشر على المنطقة، وهو ما قد ينعكس على تقبل الأكراد لهذه الجهود، حيث ترك إقليم كردستان الذى يقع على طول طريق الحجاج الإيرانيين المتوجهين إلى مدينتي النجف وكربلاء المقدستين في جنوب العراق، بصماته على معرفة أكراد العراق بالإسلام الشيعي الإيراني. وبدأت السلطات العراقية، اعتبارًا من عام 2021، السماح للمواطنين الإيرانيين، إلى جانب المواطنين الأفغان، بدخول العراق من دون تأشيرة، على الرغم من غياب العلاقات الدبلوماسية بين العراق وحكومة طالبان الأفغانية. ويشمل هذا القرار معبر باشماخ الحدودي. ففي أيلول/سبتمبر 2022، مثلًا، وتحديدًا خلال ذكرى عاشوراء، عبر أكثر من مئة ألف من الحجاج الشيعة القادمين من إيران الإقليم من خلال منفذ حاجي عمران الحدودي، حيث يقيم هؤلاء الحجاج، ذهابًا وإيابًا، بضع ليال في حديقة سامي عبد الرحمن في أربيل.

 

النفوذ في مجال التعليم

 

بعيدًا عن الدين، يسافر الطلاب في إقليم كردستان العراق بشكل متزايد إلى إيران للدراسة في جامعات الجمهورية الإسلامية. ويُعتبر هذا الخيار لطالبي جميع الشهادات، البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، خيارًا منخفض التكلفة مقارنة بالجامعات العراقية. فالطالب العراقي يتوقع دفع خمسة آلاف دولار سنويًا كرسوم دراسية في الجامعات العراقية الخاصة، في حين أن درجتي الماجستير والدكتوراه لن تكلف الطالب سوى ألف دولار أو ألف وخمسمئة دولار، تباعًا، في جامعة تبريز الإيرانية. وما يجعل التعليم في إيران أكثر جاذبية هو توسيع الجامعات الإيرانية لنطاق القبول بشكل كبير، ليشمل الطلاب الحاصلين على نسب “درجات متوسطة”، بالإضافة إلى اعتراف دولة العراق بهذه الشهادات.

 

وتستغل الجمهورية الإسلامية حضور الطلاب الأكراد العراقيين في جامعاتها لصالحها، فتعرفهم على الثقافة والمذهب الشيعيين والأجندة الشيعية الإيرانية. وقد خلف ذلك جيل من الأكراد العراقيين الذين اعتنقوا المذهب الشيعي، مثل أوميد نانكلي، مدير مكتب رجل الدين الشيعي الشهير عمار الحكيم، الذي نُفي إلى إيران باعتباره منشقًا عن نظام صدام حسين.

 

ووفي الآونة الأخيرة، جلبت إيران جامعاتها وفرصها التعليمية إلى داخل حدود جارتها. فقد وصلت جامعة آزاد الإسلامية، وهي جامعة إيرانية متشعبة جدًا ولها فروع كثيرة في كل من الجمهورية الإسلامية وسوريا، إلى مرحلة التصديق على بناء خمسة فروع جديدة لها في الشرق الأوسط. وقد لاحظ العراقيون هذه التحركات الإيرانية لتوسيع مجال التعليم في بلادهم، ويعتبرونها محاولة أخرى من قبل الجمهورية الإسلامية لنشر نفوذها في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك في إقليم كردستان العراق.

 

وبالنظر إلى هذه الحملات الإيرانية الفعالة للتأثير على المنطقة على المستويين السياسي والثقافي، ثمة دلائل على أن القوة الناعمة الإيرانية ستستمر في النمو في إقليم كردستان العراق. ومع أن ظهور تأثيرات جهود القوة الناعمة يكون بطيئًا عادة، تشير علامات النفوذ الإيراني في الحياة السياسية والدينية والتعليمية في إقليم كردستان العراق إلى أن هذه الجهود ستستمر في المستقبل.