لا غرابة في أن تتقاطع الآراء حول وجود ودور بعثة الأمم المتحدة والممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة السيدة جينين بلاسخارت بين مؤيد وداعم مع تحفظات في الأداء والمواقف بمستويات متفاوتة. ومعارضٍ حد إشهار الرغبة بإنهاء مهمتها.
والملفت أن طرفين متقاطعين سياسياً يلتقيان في هذا الموقف من البعثة، يقف أحدهما في أقصى المعارضة للسلطة الطائفية القائمة ومنظومتها “يرى أن رحيلها غير مأسوفٍ عليه”، في حين يتمثل الطرف الآخر في النظام القائم والقيادة المتربعة فوق حجارتها وخرائبها، تَّقدم رسمياً بإنهاء مهمتها معلناً انتفاء حاجة العراق لوجودها بعد أن تعافى “وصار ممكناً له أن يفيد من تجربته آخرين”..! .
من الطبيعي أن تتعرض لأوجه النقد واللوم والملاحظة، مؤسسة موصوفة مثل بعثة “يونامي” الأممية المكلفة بالمساعدة وتقديم المشورة وأوجه الدعم إلى “الحكومة” و”الشعب” العراقي في ظرف شديد الاستثنائية والتعقيد والتنافر لبلدٍ طالته كل مثالب الأوبئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بعد عقود من تعاقب الأنظمة الاستبدادية وما أدت إليه من تشوهات بنيوية في تركيبة وهيكلية “دولة مفترضة” مع أنها أصبحت لا دولة بعد انهيارها بفعل الاحتلال، وتفكيك قاعدتها وبنيتها وإعادة تركيبها على مقاسات “القائد الأوحد الضرورة”..
ومن المهم التوقف عند ما تعرض له المجتمع العراقي من تصدع طائفي وعرقي وإثني. وما أصاب العراقيين من مظاهر مرضية وتكوينية بسبب العنف والمجاعة والتغريب والعزلة، وتجريده من مقومات فعل الإرادة بعد تصفية أي مظهر للتعبير الحر والحريات العامة والخاصة وغياب حياة سياسية تتوفر فيها أبسط المستلزمات الحقوقية والإنسانية. ومما عقد المشهد وأعاد تشكيله على نموذج “منغول اجتماعي”، تدابير القيصر بول بريمر الحاكم المدني للاحتلال الأميركي وقراراته الفوقية المعزولة عن متطلبات إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وفرضه، أينما ورد على خاطره أو أتباعه ومستشاريه نماذج تحاكي الواقع الأميركي والأوروبي عموماً، ومنها مثالاً هيئة الإعلام والاتصالات وعشرات الهيئات المساعدة على إرهاق الكيان القائم بتشكيلات بيروقراطية كان من شأنها توسيع دائرة النهب والفساد وتبديد الموارد وإشاعة الفساد كثقافة مجتمعية.
في مثل هذه البيئة السياسية والاجتماعية وتحت خيمة سلطة المحاصصة وتكريس المناطقيات الطائفية والمذهبية، بدأت بعثة الأمم المتحدة، ومع خطواتها الأولى اغتيل غيلة وغدراً الشهيد سيرجيو دي ميلو، أول ممثل خاص للأمين العام للأمم المتحدة، لتتالى بعد ذلك مع هيمنة القوى الولائية الطائفية النابذة للمرجعية الوطنية العراقية، محاصرة وتضييق الخناق على البعثة بتفنن وتقنين عبر توسيع مساحات النشاط المضاد للدولة وإعادة بنائها، وإملاء الفراغ المقصود بعشرات التنظيمات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة، لتتطور مع انزياحات مستمرة للأبنية المتآكلة لشبه الدولة الفاشلة المتآكلة، وتصبح البديل العملي للدولة، بعد أن صارت السلطة السياسية العليا المقررة لوجهة سير وخيارات البلاد بيد قيادات معزولة عن من تدعي تمثيلها مذهبياً، وتختص الحكومة كما صرح علناً أحد قادة الميليشيات بالشؤون الإدارية الحكومية والخدمات الإعمارية والبلدية. وصار الحشد الشعبي القوة الضاربة للإرهاب والقوى التكفيرية بديلاً للقوات المسلحة تحت إدارة وتوجيه ومركز ماكن للقوة الضاربة بيد قادة الميليشيات وليس السلطة السياسية والقائد العام للقوات المسلحة.!
إن أي قراءة موضوعية مجردة من الحساسيات الخاصة، وليس الانتقاد البناء، لا يجد في البيئة السياسية القائمة والانفراد بالسلطة لأقلية تتحكم بالسلاح المنفلت، دعامة للتصدي للمهام المحورية التي اعتمدتها الأمم المتحدة المتمثلة في بروتوكولها والقرارات العديدة لمجلس الأمن الصادرة حول العراق. وهي تشمل بدءاً المهمة الأكبر المتعلقة بالمساعدة وإبداء المشورة لبناء الدولة الديمقراطية الاتحادية التعددية، وصياغة دستور ديمقراطي للبلاد وإجراء انتخابات تشريعية وسوى ذلك من مهام انتقالية تؤدي بالتدريج لاستكمال بناء الدولة المسودة وتصفية مخلفات الدكتاتورية والاستبداد. وتبقى المهام الأخرى العديدة الرقابية وما يمس السلم المجتمعي والمصالحة الوطنية وعشرات المهام الأخرى التي ظلت مغيبة مثل آلاف المواطنين المغيبين، وآلاف الجرحى والمعاقين ومئات الشهداء ضحايا القناصة والقتلة من “طرف ثالث” صار معلوماً، يتنقل بسيارات الدفع الرباعي ويصطاد العراقيين الذين يبحثون عن وطنهم بالبنادق الرشاشة المرخصة في سجلات الـVIP .!
ولكن رغم كل هذه الموانع والاستحالات السياسية والبيئة العامة النافرة، استطاعت الهيئة بشخص جينين بلاسخارت أن تتحرك في الاتجاهات الممانعة وتخترق الأجواء الرافضة ، لتمرر ما يمكن من توجهات المجتمع الدولي ويعكس الرغبات الدفينة للعراقيين المغضوب عليهم والمحكومين بالصمت ولو المؤقت، بعد أن نالت من أصواتهم المجاهرة بالإرادة الوطنية والتحدي بالنزول “لتأخذ حقها” بالرصاص والقنابل المفخخة والاعتقالات العشوائية والتغييب والتصفية في زنزانات الطرف الثالث المسجل عنوانه بحروف كبيرة في سجلات “الفرقة الناجية” حتى الآن..
ومثل هذه التزكية لمحاولات بلاسخارت لا تقلل من أهمية بعض الملاحظات التي تشير إلى عدم إيلاء الاهتمام باللقاء المباشر بقيادات الحركات الاحتجاجية والمدنية وأوساط الرأي العام الوطني المعارض للطائفة وحكم الطغمة الجائرة. وهي ملاحظات أوساطٍ وشخصيات ونشطاء وناشطات وطنية وضعت هذا “التقصير” في مواجهة اهتمام السيدة جينين بلقاء قادة فصائل وميليشيات بعضها متهم بوصفه الطرف الثالث. ولا يخفي ناقدون الرأي بأن إحاطات السيدة جينين في السنة الماضية والأشهر الأخيرة جاءت أضعف من القراءة الموضوعية لوقائع المشهد السياسي، بل وتقفز أحياناً على وقائع دامغة ضد الحريات العامة والخاصة والقرارات المجحفة بحق المرأة والأدوار المشتبه بمخالفتها لدستور المحكمة الاتحادية ورئيسها..
قد أتفق مع بعض النقد، لكنني إذ أفعل ذلك آخذ بنظر الاعتبار الطبيعة المحايدة المرسومة للبعثة ومسؤوليها، والحساسية التي تطبع مواقفها وسياساتها، وما تفرضه عليها طبيعتها الأممية من مراعاة تجنب استفزاز القيادة العراقية “المشوهة” من حيث التكوين وتقاسم الأدوار بتكريس السلطة السياسية المقررة بـ”الإطار التنسيقي” وحصر صلاحيات حكومتها بالشؤون الإدارية الدولتية وإدارة الشؤون البلدية والجسور والطرق والإعمار.
ولا بد من الأخذ بالاعتبار في هذا السياق التقييمي، بعد ذلك بحكمة وخبرة ودراية جينين بلاسخارت بخلفيتها التي تراكمت فيها خبرة عقدين تقلدت مسؤوليات قيادية في هولندا، مرت خلالها ببرلمان بلادها ثم في البرلمان الأوروبي، ثم وزارة الدفاع الهولندية..
وإذ أؤكد على أولوية المهام الرقابية والمشورة الحاكمة برصيد التجربة الأممية، سأجد في الإحاطات التي قدمتها الممثلة الخاصة للأمين العام بشكل عام أهم عونٍ للعراقيين في وضع لوحة قريبة من الواقع أمام مجلس الأمن الدولي وأعضاء الجمعية العامة ومن خلال ذلك أمام الرأي العام العالمي وبذلك جعل ما يدور في وطننا المبتلى والمشهد الأبرز فيه يميل إلى مضادات بناء دولة ديمقراطية اتحادية ومحاولات فضّة لتجذير تصدعات المجتمع ومكوناته وتصفية أي مظهر إيجابي فيه لتجاوز الانفراد المخل وتصفية فوضى السلاح المنفلت والمستقوين به، والإبقاء على كل ما هو استثنائي في حياة البلاد إلى حين استنهاض اليقظة الوطنية وما يبعثه من نهوض شعبي يذكرنا باليوم التالي لثورة ١٤ تموز التي ألغى عيدها الوطني أيتام البعث ومخلفات نظامه والآباء المؤسسون للطائفية البليدة والولاء لغير العراق..
إن إنهاء مهمة يونامي يراد منها، حرمان العراقيين من الرقابة الأممية على نهج وسياسات السلطة الحاكمة بما ينطوي عليها من عسف وعنف وتجاوز وفوضى، وما يتحكم في قراراتها من محاولات لتغيير الواقع العراقي بوصفه دولة وطنية اتحادية ديمقراطية، بالعمل على إعادة مركزية طاردة للوحدة الوطنية بتهميش مشاركة فعلية للعرب السنة، وتصديع وحدة إقليم كردستان، وإلغاء تمثيل المكونات والأقليات القومية سواء عبر إلغاء الكوتة أو بالوسائل التخريبية والترويعية الأخرى ومنها تغيير التركيب السكاني للمحافظات، أو بحرمان المواطنين المهجرين من العودة إلى مدنهم ومناطق سكناهم، والإبقاء على هيمنة وعنف الميليشيات في المناطق العربية..
سنظل نتذكر إحاطات جينين بلاسخارت إلى مجلس الأمن والمجتمع الدولي، مهما كانت نسبية، مع أنها لم تكن كذلك، حول تدهور وانحطاط أوضاعنا وتعرضها لمخاطر انسداد الأفق أمام وضع حد للأزمات التي تعصف بالبلاد.
فخري كريم